مقومات الجمال عند الجاحظ - عزت السيد أحمد
لقد بات من المسلم به أن "المقولات الجمالية هي القيم الأساسية التي تمثل أحجار الزاوية في البناء الجمالي، ويبين تطور الوعي الجمالي أن تعدد وتعقد أشكال علاقة الإنسان الجمالية بالعالم هما أساس غنى وكثرة الألفاظ التي تدل على المعاني الجمالية"(1).
وقد اختلف الباحثون وعلماء الجمال في تحديد المقولات الجمالية وفي تصنيفها؛ فقد "أكد أدموند بوركه وكانت Kant أهمية كل من مقولتي الجمال والجلال (أو الروعة)... وقدم بعض علماء الجمال نسقاً سداسياً للمقولات يتضمن الجميل ونقيضه القبيح، والجليل (الرائع أو السامي) ونقيضه التافه. ثم المأساوي والهزلي"(2) وذهب شارل لالو إلى تصنيف هذه المقولات على أساس قانون التناسق العام- كما سماه- ورأى أنه الأكثر قرباً من متناول اليد، والأكثر امتلاء، فكان التصنيف التالي(3):
<> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <> <>
التناسق
|
متحققاً
|
ملتمساً
|
مفقوداً
|
في الناحية العقلية
|
جميل
|
رائع
|
ظريف
|
في الناحية الفاعلية
|
فخم
|
مؤثر
|
مضحك
|
في الناحية الانفعالية
|
لطيف
|
مفجع
|
تهكمي
|
تصنيف لالو للمقولات الجمالية
وقام أستاذنا الدكتور عبد الكريم اليافي بإعداد تصنيف رباعي للمقولات الجمالية مقتصراً فيه على القيم الإيجابية. مرتئياً أنه أبسط وأفضل من حيث إنه "يشتمل أربع قيم أصلية متقابلة مثنى مثنى تقابلاً جدلياً، وهي الجمال والروعة والرقة والضحك، ويفسح مجالاً لألوان كثيرة فنية أخرى دون حصر" فوضع تلك القيم في جوانب دائرة دعاها دائرة المحاسن، كما في الشكل التالي(4):
الجمال
الرقّة الروعة
الضحك
تصنيف اليافي للمقولات الجمالية
ومهما يكن من أمر، يمكننا، باعتبار، أن نقسم المقولات الجمالية إلى قسمين رئيسين، يضم الأول القيم الجمالية الأساسية، بينما يشمل الثاني القيم الجمالية الفرعية أو الملحقة، ثم تنقسم الأساسية منها- وتتبعها الفرعية- إلى قيم إيجابية وأخرى سلبية، فنجدها أمام الجمال وملحقاته، والقبح وملحقاته. وعلى الرغم من أن هذا التصنيف يثير بعض المشكلات إلا أننا سنتغاضى عنها لأنها لا تهمنا هنا. وعلى هذا الأساس سنتناول المقولات الجمالية عند أبي عثمان الجاحظ.
مفهوم الجمال:
كثيراً ما استخدم صاحب "المحاسن والأضداد" لفظة الجمال في كتبه، ولكنه قلما توقف عند مدلول هذه المفردة كمفهوم أو مصطلح نقدي أو قيمي، وإنما جاء في الأغلب الأعم ليدل على سمة أو حال محببة إلى القلب، قلب الحامل له وقلب الناظر إليه. فكان الجمال بهذا المعنى كناية عن صفة من صفات الجسم الإنساني، أو دلالة على مجموعة من الصفات والخصائص الجسمية(5) أما الجمال كمقولة جمالية أساسية فلم يتوقف عنده إلا مرة واحدة- سنعرض لها بعد قليل(6) جاعلاً الاعتدال فيها محور الجمال وعماده.
إن تحديد الجمال وتأطيره على نحو دقيق أو شبه دقيق، أمر ما زلنا نقف عاجزين أمامه حتى أيامنا هذه، وليس في ذلك عيب أبداً لأن طبيعة الجمال غير منفصلة عن الذات المتلقية، هذه الذات التي تتباين أحوالها وتتخالف وتتضارب أهواؤها... وقد وقف أبو عثمان على هذه الحقيقة وعبّر عنها بقوله: "إن الحسن (الجمال) أدق وأرق من أن يدركه كل من أبصره"(7) ذلك أنه ليس في مكنة كل الناس أن يقفوا على حقيقة الجمال والقبح، فإن "معرفة وجوه الجمال والقبح لا تتأتى إلا للثاقب النظر، الماهر البصر، الطب في الصناعة"(8) وكاد الجاحظ أن يقود هذا المفهوم (الجمال) "نحو اكتساب مدلولاته التجريدية التي أضفاها عليه الاستعمال فيما بعد، لا سيما في عصرنا، بالإضافة إلى مدلولاته الحسية في الأصل"(9) وذلك فيما أراده من جواب الرسول الكريم عن سؤال ابن العباس بن عبد المطلب: "فيم الجمال؟ قال: في اللسان"(10) ولكنه لم يستطع ذلك تماماً، ليظل في الإطار الوصفي والحسي لمفهوم الجمال.
إلا أن الجاحظ يقودنا أيضاً إلى مسألة مهمة في تحديد طبيعة الجمال ومقوماته عندما ربطه بالعرف والعادة. عادّاً الجمال ما اعتادت الناس تقبّله واستحسانه، وتعارفت عليه جميلاً. وفي مثل ذلك يقول: "كانوا يمدحون الجهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت، ولذلك تشادقوا في الكلام، ومدحوا سعة الفم، وذمّوا صغر الفم"(11). ويستشهد لتأكيد ذلك بتعريف الجمال الذي فاه به أعرابي فقال: "قيل لأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول القامة، وضخم الهامة، ورحب الشدق، وبُعد الصوت"(12) ومعروف ما كان لطول القامة وضخم الهامة من أهمية وتحبيذ واستحسان، لما ينتظر من هاتين السمتين من شجاعة وقوة وقدرة.
عمود الجمال(13):
يبدو من خلال ذلك أن الجاحظ قد فسح مجالاً واسعاً لدور الذات في تحديد مقومات الجمال، ولذلك فإن التباين في وصف الجمال أو الاختلاف في تحديد مقوماته أمر جدُّ وارد، ويورد صاحب المحاسن نماذج شتى لهذا التباين، وإن كان البون غير شاسع، بل إنه يؤكد في المحصلة ما سلف نعته، فإن كان الأعرابي السابق قد حدد الجمال بطول القامة وضخم الهامة، ورحب الشدق وبعد الصوت، فإن أعرابياً آخر جعله في "غؤور العينين وإشراق الحاجبين ورحب الشدقين"(14). بينما ذهب خالد بن صفوان إلى حصره في طول القامة وبياض البشرة واسوداد الشعر، وذلك عندما سئل عن عمود الجمال فقال: "الطول ولست بطويل، ورداؤه البياض ولست بأبيض، وبرنسه سواد الشعر وأنا أشمط"(15).
وكما اختلفوا في عمود حسن الرجل أو جماله، كذلك اختلفوا في عمود حسن المرأة، فقد "قيل: أحسن النساء الرقيقة البشرة، النقية اللون، يضرب لونها بالغداة إلى الحمرة وبالعشي إلى الصفرة... وقيل لأعرابي: أتحسن وصف النساء؟ قال: نعم، إذا عذب ثناياها، وسهل خداها، ونهد ثدياها، وفعم ساعداها، والتف فخذاها، وعرض وركاها، وجدل ساقاها، فتلكم همُّ النفس ومناها"(16).
ويورد الجاحظ أيضاً وصفاً لخالد بن صفوان يذكر فيه مقومات جمال المرأة عندما قال لدلال الجواري: "اطلب لي امرأة... لها عقل وافر، وخلق ظاهر؛ صلة الجبين، سهلة العرنين، سوداء المقلتين، خديجة الساقين، لفاء الفخذين، نبيلة المقعد، كريمة المحتد، رخيمة المنطق، لم يدخلها صلف، ولم يشن وجهها كلف، ريحها أرج، وجهها بهج، لينة الأطراف، ثقيلة الأرداف، لونها كالرق، وثديها كالحق، أعلاها عسيب، وأسفلها كثيب، لها بطن مخطف، وخصر مرهف، وجيد أتلع، ولب مشبع، تتثنى تثني الخيزران، وتميل ميل السكران، حسنة المآق، في حسن البراق، لا الطول أزرى بها ولا القصر"(17). ويبدو أن ابن صفوان قد أعجز في طلبه من حيث أراد أن تجتمع كل مقومات الجمال في واحدة، ولذلك رد عليه الدلال بمثل طلبه إذ قال: "استفتح أبواب الجنان فإنك سوف تراها"(18).
الجمال والحسن:
لم يميز صاحب البيان بين الجمال والحسن أبداً من حيث الاستخدام والدلالة، فكان يستخدمهما للإشارة إلى المدلول ذاته، فيقول مثلاً: "الحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن جمال النساء وحاجات الرجال وموافقتهن قليلاً ولا كثيراً، والرجال والنساء أبصر، وإنما تعرف المرأة من المرأة ظاهرة الصفة"(19). ثم يقول بعد صفحتين: "وقد عرف الشاعر وعرف الواصف أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الطبيعة وأحسن من البقرة وكل شيء تشبه به، ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون"(20) ويستشهد في المحاسن والأضداد بقصة المرضعة حواء التي قالت لإحدى الفتيات: "إنا كنا في مأدبة لقريش، فلم تبق امرأة لها جمال إلا ذكرت وذكر جمالك"(21). ويذكر بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها قوله: [إياكم وخضراء الدمن، وهي المرأة الحسناء في المنبت السوء"(22).
ولعل مرد ذلك إلى أن العرب كانت تستخدم هاتين المفردتين على هذا النحو من التداخل، بل التساوي في الدلالة المفهومية، فالحسن كما يقول ابن منظور ضد القبح ونقيضه وهو نعت لما حَسُن(23) أما الجمال فهو مصدر الجميل، أي البهاء والحسن(24) وكأنه- ابن منظور- يرى أنَّ أصل هذه القيمة الجمالية هو الحسن، والجمال فرع لاحق، فقد عرَّف الحسن بذاته وعرَّف الجمال بالحسن، والنحو ذاته نحاه ابن فارس فقد عدَّ الحسن ضد القبح ولم يزد(25) ورأى أن الجيم والميم واللام أصلان أحدهما تجمع وعِظَمُ الخلق، والآخر الحسن(26) ولكنه خالفه بأن ذهب إلى أن الجمال كمصدر هو أصل دلالات مشتقاته اللغوية كلها، وهذا واضح في أصلي معنى الجذر.
إلا أنهما لم يحددا لهذا المفهوم أو المصطلح الجمالي- بلفظيه: الحسن والجمال- دلالة واضحة، ولعل أكثر من أفاض الحديث عن هذا المفهوم وأبعاده- من مفكرينا- هو أبو البقاء الكفوي في معجمه الاصطلاحي "الكليات" ومما يقول فيه: "الحسن عبارة عن تناسب الأعضاء، وأكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر؛ وأكثر ما جاء في القرآن من الحسن فهو للمستحسن من جهة البصيرة"(27).
الجمال في الاعتدال:
ولكن، لا بد أن نتساءل هنا: ما علَّة اعتبار الشيء جميلاً، أو لنقل: ما الذي يجعل صفة أو نعتاً أو حالاً يُتلقى على أنه جميل؟ أهو الشيء في طبيعته، أم الأمر في الذات المتلقية؟
هنا ينعطف الجاحظ انعطافة نوعية في تحديد طبيعة الجمال بجعله العلة في الموضوع لا في الذات كما بدا منذ قليل. منطلقاً من الحديث النبوي الشريف "خير الأمور أوسطها" أساساً في تبيان العلة التي نعد الجميل بها جميلاً، فيرى أن الجمال إنما ينبثق من الاعتدال أو التوسط بين طرفي متراجحة الزيادة والنقصان، أو الإفراط والتفريط، فالزيادة تورث عيباً، والنقصان يُخلِّفُ شيئاً، وفي ذلك يقول: "أما تجاوز المقدار كالزيادة في طول القامة، أو كدقة الجسم، أو عظم الجارحة، أو سعة العين أو الفم مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق، فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان في الحسن وإن عدَّت زيادة في الجسم"(28).
ولكن أبا عثمان لا يوقف نظريته هذه على الجسم البشري فهو يرى أن الاعتدال مطلب لازب في كل أمور الحياة وصور الطبيعة كيما توصف بالجمال، معمماً بذلك حكمه على الأخلاق أيضاً، فالخلق المحمود فيما يرى، هو ما كان معتدلاً ومتوسطاً بين تطرفين "فالحدود حاصرة لأمور العالم ومحيطة بمقاديرها الموقفة لها، فكل شيء خرج عن الحد في خَلق أو خُلق حتى في الدين والحكمة اللذين هما أفضل الأمور، فهو قبيح ومذموم"(29).
ثم يتابع صاحب التربيع والتدوير شارحاً ما يريده من الاعتدال أو التوسط، ولا سيما أنَّ نظرية الاعتدال في الجمال قد لا تكون مقنعة كما هي في نظرية أرسطو الأخلاقية. إن الجمال هنا يشبه العدل كقيمة أخلاقية لا تتوسط نقيضين، وإنما هي طرف يقابله نقيض هو الجور، فليست زيادة العدل مذمة. فهل نستطيع القول إن زيادة الجمال تدعو إلى ذمه؟! أو كما يقول الجاحظ: "فمن كان عيب حسنه الإفراط، والطعن عليه من جهة الزيادة كيف يرومه عاقل، أو ينقصه عالم؟"(30).
حتى لا يقع مفكرنا في هذا المطب ذهب إلى أن مراده من الاعتدال إنما هو التناسب والاتساق بين عناصر الصورة الجمالية على حسب ما هي عليه، فيكون الجسم جميلاً إذا تحقق فيه التوازن والانسجام بين أبعاد عناصره وأحجامها بحيث "لا يفوت منها شيء شيئاً، كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير الأفطس، والأنف العظيم لصاحب العين الضيقة، والذقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المجدع النضو، والظهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرين، والظهر القصير لصاحب الفخذين الطويلين، وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه"(31).
ويقدم لنا نموذجاً تطبيقياً على نظريته في الاعتدال والتوسط عندما يصف لنا أكثر ما يُرغب من الصفات الجمالية في المرأة، وكلها صفات تتوسط ما بين طرفي الإفراط والتفريط، أو الزيادة والنقصان. وقد استمد هذا الحكم فيما يبدو من خبرته ومعرفته بآراء أهل عصره، فقد وجد أن "أكثر الناس من البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة هذا الأمر، يقدمون المرأة المجدولة. والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة، ولا بد فيها من جودة القد وحسن الخرط واعتدال المنكبين واستواء الظهر. ولا بد فيها من أن تكون كاسية العظام بين الممتلئة والقضيفة. وإنما يريدون بقولهم مجدولة: جودة العصب وقلة الاسترخاء، وأن تكون سليمة من الزوائد وكأنها قضيب خيزران، والتثني في مشيها أحسن ما فيها، ولا يمكن ذلك الضخمة السمينة وذات الفضول والزوائد، على أن النحافة في المجدولة أعم، وهي بهذا المعنى أعرف، وهي بهذا المعنى تحبب على السمان والضخام، وعلى الممشوقات والقضاف(33)، كما تحبب هذه الأصناف على المجدولات، وقد وصفوا المجدولة بالكلام المنثور فقالوا: أعلاها قضيب وأسفلها كثيب"(34).
وحتى لا نظن أن نظريته هذه في الاعتدال والتوسط مقصورة على الجسم الإنساني كما يدل على ذلك أغلب قوله وجل شواهده فقد قام بتطبيق معياره هذا على كثير من الأجسام والأشياء الطبيعية كالبنفسج والزرع، وعلى الأشياء الصنعية كالأبنية والفرش وقنوات جر المياه(35).
ولعل الجاحظ لم يركن إلى البت في أن الجمال محصور في التوازن والتناسب بين العناصر والأجزاء، أو كما نقول في اللغة الاصطلاحية: لم يطمئن إلى أن الموضوع وحده هو مصدر الجمال، فقد يفتقر الموضوع إلى التوازن والتناسق ولكننا مع ذلك نراه جميلاً. فيقول: "ولربما رأيت الرجل حسناً جميلاً، وحلواً مليحاً، وعتيقاً رشيقاً، وفخماً نبيلاً، ثم لا يكون موزون الأعضاء، ولا معدل الأجزاء، وقد تكون أيضاً الأقدار متساوية، غير متقاربة ولا متفاوتة. ويكون قصداً ومقداراً عدلاً، وإن كانت دقائق خفية لا يراها إلا الألمعي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي"(36).
ثم لا يلبث أن يعول على الذات في إضفاء القيمة الجمالية على الموضوع، لتبدو الذات وكأنها هي مصدر القيمة الجمالية من حيث انقيادها لميل أو هوى ترى به المثل الجمالية متجسدة فيمن تحب أو تهوى، ويورد لنا شواهد كثيرة من هذا النوع، فيعقب على قوله السابق: "فأما الوزن المحقق، والتعديل المصحح، والتركيب الذي لا يفضحه التفرس، ولا يحصره التعنت، ولا يتعلل جاذبه، ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام، ودام لك على الأيام"(37).
ويقول أيضاً: "وأين الحسن الخالص، والجمال الفائق، والملح المحض، والحلاوة التي لا تستحيل، والتمام الذي لا يحيل، إلا فيك أو عندك أو لك أو معك؟ لا بل أين الحسن المصمت، والجمال المفرد، والقد العجيب، والكمال الغريب، والملح المنثور والفضل المشهور إلا لك وفيك"(38).
إن ترجُّح الجاحظ بين الاتجاهين؛ الذاتي والموضوعي، في تحديد طبيعة الجمال، غير جانحٍ إلى أحدهما دون الآخر، ولا باتّ في أرجحية أي منهما، آخذاً بعين الاعتبار اختلاف أذواق الناس، لأسباب شتى، ودور ذلك في الأحكام الجمالية وتباينها، حتى على الأثر الجمالي الواحد، وكذلك الشروط الموضوعية الواجب توافرها في الموضوع كيما يكون جميلاً، يجعله رائداً أوّلَ للنظرية الجدلية في تحديد طبيعة الجمالي سابقاً بذلك تلميذه الفذ أبا حيان التوحيدي(39) ورائد الدراسات الاجتماعية ابن خلدون(40) هذه النظرية التي يدعي جلّ المفكرين- إن لم يكونوا كلهم- أنها لم تنشأ إلا مع مطالع القرن التاسع عشر على يدي المفكر الروسي تشرنشفسكي، أو ربما في أواخر القرن الثامن عشر كإرهاصات أولية على أيدي ديدرو وهردر وشلر(41).
الشكل حامل القيمة الجمالية:
ثمة شبه إجماع بين الفلاسفة والباحثين على أن الشكل هو حامل القيمة الجمالية، بمعنى أن خصائص الجمال ومقوماته تتموضع على صورية الموضوع، وإن كان بعضهم يضيف المحتوى عنصراً ثانياً إلى هذا الحامل فإننا لا نميل إلى اعتبار ذلك ثنائية متفاصلة ولا متلازمة، لأن الفصل بين الشكل والمضمون، من الناحية الجمالية على الأقل، أمر غير مقبول، بل يحق لنا القول إنه غير ممكن، فالفرق واضح وكبير بين الوردة الحقيقية والبلاستيكية والمرسومة(42) ولذلك فإن "القوس المنحني قد يكون جميلاً بوصفه علاقة هندسية معمارية، ولكنه قبيح إذا كان شكلاً لظهر محدب، وإذا كانت الأرزة جميلة بتناظرها فالمرعى يستمد جماله من عدم تناظره. ونسب الجسد الإنساني الجميل تتغير بتغير المحتوى اليبولوجي: رجل، امرأة، صبي، شاب، الخ... والحمرة جميلة على خدِّ صبية، ولكنها ليست كذلك على أنفها، وهذا كله يدل على أن الصفة الجمالية، وهي صفة للشكل لا يمكن أن تنفصل عن المحتوى الذي تعبر عنه"(43).
وقد كان الجاحظ سبَّاقاً في الوقوف على هذه المسألة وحقيقة أبعادها وقوف اللوذعي الألمعي، فبيَّن أن الصفة أو الشيء إنما يستمد جماليته من مكان تموضعه، وكذلك القيمة الجمالية للصفة قابلة للتغير والتفاوت تبعاً للشكل أو الموضوع الذي يحملها، ولذلك فإن تقويمنا لجمالية اللون الأزرق مثلاً تتباين بتباين حامل هذا اللون الذي قد يكون للعين أو للسماء أو للثوب أو للماء... وكذلك شأن غيره من العناصر أو الصفات أو الأحوال... وعلى هذا الأساس يقول أبو عثمان: "والتاج بهي، وهو على رأس الملك أبهى، والياقوت كريم، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن، والشِّعر الفاخر حسن، وهو في فم الأعرابي أحسن. وإن كان من قول المنشد وقريضه، ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية وقام على النهاية"(44).
ثم يقدم نموذجاً تطبيقياً يجلو لنا من خلاله حقيقة ما ذهب إليه على نحو بارع رائع، وإن كان المراد في الأصل تهكماً فإن مقتضى السياق الدلالي لا يفترق في النتيجة عما عليه مدار حديثنا، فيقول: "وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أم إذا تأملنا بعضك: أما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، كما أصبحنا، وما ندري الكأس في يدك أحسن، أم القلم، أم السوط الذي تعلقه، وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن، وأيها أجمل وأشكل: اللمة، أم خطُّ اللحية، أم الإكليل، أم العصابة، أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة.
وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل؛ الحديث أم الشعر، أم الاحتجاج أم الأمر والنهي، أم التعليم أو الوصف؛ وعلى أننا ما ندري أي ألسنتك أبلغ؟ وأي بيانك أشفى؛ أقلمك، أم خطك، أم لفظك، أم إشارتك، أم عقدك؟ وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد، وأنت في ذلك فوقهم؟.
وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال ويشبه به أهل الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلاً نضواً، ويظهر معوجاً شختاً(45) وأنت أبداً قمرٌ بدرٌ، وبحر غمرٌ(46).
القيم الجمالية:
ظل الجمال والحسن عند الجاحظ القيمة الجمالية المحورية التي تستمد القيم الجمالية الإيجابية قيمتها أو درجتها منها، ولكنه لم يتوقف عندها، كما لم يقتصر عليها لدى إطلاقه الأحكام الجمالية على مختلف الموضوعات الحسية والعقلية. ولا نبالغ إذا قلنا إنه استخدم في كتبه كل مفردات اللغة العربية الدالة على قيم جمالية، والتي نعدها مصطلحات أو مفاهيم جمالية في علم الجمال. كالرفعة والسمو والزهو، والعظمة، والسناء والنقاء والبهاء، والكمال والتمام، والملاحة والحلاوة والطلاوة، والصباحة والوضاءة، والظرف واللطف، والفتنة والسحر، والرقة والأناقة والرشاقة، والعذوبة والفخامة والوسامة، والبلاغة والجودة، وغيرها مما تزخر به لغتنا العربية من مفردات يمكن اتخاذها معياراً للأحكام الجمالية.
إن المشكلة التي تعترضنا هنا أن صاحبنا لم يتوقف البتة عند واحدة من هذه المفردات ليبين مرتبتها أو درجتها في سلم القيم الجمالية، وإن كان ذلك فبالعرض أو ما يشبه الإشارة التلميحية التي نستدل من خلالها أو هذه القيمة تسمو على الجمال مكانة أو تدنو، هذا على الرغم من أن كثيراً من المفكرين واللغويين- وكلهم تقريباً من اللاحقين عليه قد أناطوا هذه المفردات وغيرها بمزيد عنايتهم ولا سيما من حيث الاختصاص، أو ما تخص به القيمة الجمالية من أشياء كأن يقال: "كمال الحسن في الشعر، والصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم، والحلاوة في العينين، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد، واللباقة في الشمائل..."(47).
بل إن الجاحظ كثيراً ما كان يستخدم هذه المفردات بشكل متداخل متشابك. فيستخدم أكثر من مفردة للدلالة على الشيء ذاته في أكثر من مكان، إلا أنه في الأغلب الأعم كان يشير إلى أن القيم الجمالية الإيجابية مرغوبة، مطلوبة، محبوبة. ونقائضها مذمومة، مستقبحة. وربما علل للقارئ لماذا يُحبُّ ما يُحبُّ ولماذا يُكره ما يُكره. ويقول على سبيل المثال: "وهم وإن كانوا يحبون البيان والطلاقة، والتحبير والبلاغة، والتخلص والرشاقة، فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتكلف والإسهاب والإكثار، لما في ذلك من التزيد والمباهاة، واتباع الهوى والمنافسة في العلو والقدر. وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة، لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء، وكل مراء في الأرض فإنما هو نتاج الفضول، ومن حصل كلامه وميزه، وحاسب نفسه، وخاف الإثم والذم، أشفق من الضراوة وسوء العادة، وخاف ثمرة العجب، وهجنة القبح"(48).
ومهما يكن من أمر ففي مكنتنا الوقوف عند بعض هذه القيم الجمالية محاولين الكشف عن دلالاتها بحسب الرؤية الجاحظية، رابطين إيَّاها بمرادفاتها الممكنة.
1-الجودة:
لم تأت هذه القيمة الجمالية عند صاحب التربيع والتدوير إلا مضافة إلى ما بعدها، وما أكثر ما أضيفت إليه من مصادر فذكر جودة الابتداء وجودة القطع، وجودة الحذف، وجودة الاختصار، وجودة الكلام، وجودة الرأي، وجودة المثل، وجودة الشعر، وجودة اللهجة، وجودة السبك، وجودة الإقناع، وجودة التثقيف... مما يدل على أن الجودة قيمة جمالية غير مخصوصة بمنعوت أو أكثر، وإنما "هي صفة تعلو مرتبة الحسن في قاموس الجاحظ، أو ترادفها مع امتياز لها قليل جداً(49) بل إن أبا عثمان قد أضفى على هذه الصفة قيمة عملية أخرى غير جمالية هي المهارة الطبيعية والمكتسبة، والذي يؤكد ذلك هو إضافة هذه القيمة إلى خصائص تمتاز بها بعض الحيوانات كالكلاب التي خصها بجودة الثقافة(50) وجودة الشم"(51).
والحق أننا لم نعثر لدى الجاحظ على أي شروح أو تعليقات أو شروط أو صفات لضروب الجودة هذه، فلم نعرف عن جودة الاختصار إلا أنها أجمع للمعاني(52) وإن كان قد أبان مراده من الإيجاز بقوله: "هو حذف الفضول والغريب البعيد"(53) ولعله لذلك أراد بجودة الاختصار تكثيف المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة.
أما جودة الإمتاع(54) وجودة التثقيف(55) وجودة الحذف(56) وجودة الكلام(57) وجودة اللسان(58) وجودة اللفظ(59) وجودة اللهجة(60) وجودة المثل(61) فقد جاءت- وجل ما خلاها- مجردة عن أي إضافة تقودنا إلى فهم المقصود منها بالتحديد سوى أنها إحدى مراتب الجمال في المخصوص بالجودة، ولعلها ترتبط بمهارة ما ضرورية لتحقيقها، وإن كان في مكنتنا الكشف عنها في بعض الأحيان من خلال الإشارات أو الشروحات المشفوعة بالمنعوت أو المخصوص بالجودة- فعل قبل قليل- ولكن ذلك أمر يطول بنا ويكفينا منه نموذج واحد.
أما جودة الشعر فعلى الرغم من أنه وقف عند جودة أشعار البعض غير مرَّة إلا أنه لم يعرض لبسط مراده من جودة الشعر إلا مرة واحدة فقال: "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً جيداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان"(62).
2-الحلاوة:
لم يكشف الجاحظ عن دقيق مراده من هذه اللفظة في كل استخداماته لها، ولكنها على العموم كانت ترد لديه في إطار أحد معان ثلاثة، أولها ملازم للكلام مفرداً ومركباً، وثانيها كسمة للطبع، وثالثها لجمال الوجه.
فمن الناحية الأولى كان "يسوقها في مجال الثناء على جمالية اللفظ حيناً، ويطلقها في صدد إطراء المعنى (أحياناً)، والحلاوة ترادف الطلاوة، والرشاقة، والسهولة، والعذوبة، كما ترادف الجزالة والفخامة، ولئن لم تمكنا النصوص مع معرفة مدلول الحلاوة بالنسبة إلى المعنى فإن اللفظ الموصوف بها هو، على الأرجح، الذي لا يعسر على اللسان أن يخرجه، والذي تستسيغه الأذن ويطيب فيها وقعه، لخلوه مما يشوب فصاحة حروفه ومقاطعه، وكما اتفق علماء البلاغة بعد الجاحظ، على أن جمالية اللفظ لا تكون في نطاق الرقة والليونة فحسب، بل هي أيضاً على نطاق الجزالة والفخامة أيضاً، وذلك استناداً إلى مبدأ التآلف بين حروف الألفاظ ومعانيها"(63) ولم يفت الجاحظ، على أسبقيته الزمانية على علماء البلاغة العرب، أن يشير إلى هذا المبدأ إشارة، وإن كانت مبتسرة مختصرة فإنها شافية وافية، فيقول: "إن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة، وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق، وتكميل الحروف، وإقامة الوزن، وإن حاجة المنطق إلى الطلاوة، والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة، وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب، وتنثني إليه الأعناق، وتزين به المعاني"(64) ويقول- بهذا المعنى أيضاً- في أُسيد بن عمرو بن تميم: "كان نساباً راوية شاعراً، وكان أحلى الناس لساناً، وأحسنهم منطقاً"(65).
ومن الناحية الثانية كان الجاحظ يلجأ إلى هذه اللفظة لوسم الأدباء والمفكرين بشيء محبب إلى القلوب، مرغوب، كالظرافة واللطف وعذوبة الطبع، ومما يقول في ذلك: "كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة"(66).
وقد استخدم الحلاوة أيضاً نعتاً جمالياً، وخصَّ بها جمال الوجه فقال: "وعنده جارية يقال لها شادن موصوفة بجودة ضرب العود، وشجو صوت وحسن خلق، وظرف مجلس، وحلاوة وجه"(67)
3-الرقة:
اتجه الجاحظ بمعنى الرقة، من حيث استخدامه، اتجاهين متباينين في طبيعة المدلول، فذهب في الأول نحو المنحى الحسي، للدلالة على جمال المرأة شكلاً. على أن هذا الجمال الموسوم بالرقة ظرفي يتجلى في أوقات معينة حدَّها صاحب المحاسن بقوله: "المرأة الحسناء أرق ما تكون محاسن صبيحة عرسها، وأيام نفاسها، وفي البطن الثاني من حملها"(68) وفي إطار المنحى ذاته خصَّ الرقة بالبشرة ولكنه ربطها بنقاء اللون الذي يتغير بين الغداة والعشي وكأنه يعقد صلة بين رقة البشرة وإسباغ هذا الضرب من الجمال تبعاً لظرفي اليوم، فيقول: "وأحسن النساء الرقيقة البشرة، النقية اللون، يضرب لونها بالغداة إلى الحمرة، وبالعشي إلى الصفرة"(69).
إن الرقة بالمعنيين كليهما ضرب خاص من الجمال المرتهن بظروف خاصة، ولذلك نستطيع القول: إن الرقة في المفهوم الجاحظي جمال نوعي لا تتحلى به المرأة دائماً، وإنما في ظروف زمانية أو فزيولوجية معينة.
أما المنحى الثاني فقد ذهب فيه الجاحظ صوب الكلام كفن، ويبدو مما ذكر الرقة فيه من كلام أنه يقصد منها الكلام المهفهف اللطيف الرشيق الآخذ بعضه بركاب بعض، السهل على الأذن القريب من القلب، يقول: "حدثني من سمع أعرابياً مدح رجلاً برقة اللسان فقال: كان والله لسانه أرق من ورقة، وألين من سرفة"(70) ويورد حديثاً دار بين معاوية والأحنف بن قيس يقول فيه معاوية بعدما سمع اعتذار الأحنف عن الجلوس في حضرته: "لقد أوتيت تميم الحكمة مع رقة حواشي الكلام"(71).
وبهذا المعنى أيضاً استخدم الرقة للدلالة على ما يبثه الكلام المتسم بالرقة في المجلس من رقة مماثلة فيقول: "فأما أبو بشر فإنه صحيح الكلام رقيق المجلس"(72).
4-الروعة:
ثمة شبه إجماع بين منظري الفكر الجمالي على أن الرائع من الجمال هو الخارق، غير العادي ولا المألوف، والرائع في اللغة العربية هو الذي يثير الروع أو الخوف، ولذلك لا عجب في أن يدلَّ بالرائع على الجمال الأخاذ الذي يتجاوز ما ألفته إدراكاتنا، وعندما استخدم الجاحظ هذه المفردة لم يبتعد كثيراً عن مدلولها الاصطلاحي هذا فقال في الرائع من الكلام: "قال يونس بن حبيب: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله ("(73) وقال في جمال امرأة: "فأتى من بغداد بجارية رائعة، فائقة الغناء"(74).
5-الظرف:
كثيراً ما ترددت لفظة الظرف في كتابات الجاحظ. وفي كل ما عثرنا عليه من استخدامات هذه المفردة لم يحد أبو عثمان عن الإشارة بها إلى درجة من درجات الجمال التي تبزه بكثير. وينحصر هذا الجمال الموصوف بالجمال المرئي، ولعله أكثر ما يتجلى في الوجه، فيقول: "قال الحكم بن صخر: رأيت بأقرَّة امرأتين لم أر كجمالهما وظرفهما وثيابهما"(75) ويصف جارية بقوله: "فسفرت عن وجهها فإذا هي أجمل الناس وأكملهم ظرفاً"(76). ويورد قولاً للمازني بهذا المعنى أيضاً جاء فيه: "ابتاع فتى صلف بذاخ جارية حسناء بديعة ظريفة..."(77).
وليس الظرف وقفاً على النساء فالرجال أيضاً يوسمون بالظرف وفي ذلك يقول: "غير أن خالداً كان قد جمع، مع بلاغة اللسان، العلم والحلاوة والظرف"(78) بل لعل الأجدر بحمل صفة الظرف هم الرجال لا النساء، والذي يقودنا إلى هذا المنحى من الفهم قصة خالد بن صفوان مع إحدى النساء التي وصفته بالجمال فأنكر عليها ذلك وطلب إليها أن تنعته بالملاحة والظرف، يقول الجاحظ: "وكان خالد جميلاً ولم يكن بالطويل، فقالت له امرأة: إنك جميل يا أبا صفوان، فقال: وكيف تقولين هذا وما فيَّ عمود الجمال ولا برنسه،... ولكن قولي إنك لمليح ظريف"(79). ويقول أبو عثمان أيضاً في وصف أبي الأسود الدؤلي: "كان خطيباً عالماً، وكان قد جمع شدة العقل، وصواب الرأي، وجودة اللسان، وقول الشعر، والظرف"(80).
وربما حمل الظرف على ضرب من الكلام يتسم بعدة سمات لعل أهمها التماسك والانسيابية بعيداً عن عيون النطق وعثرات اللسان، وفي هذا يقول: "دخل معبد بن طوق العنبري على بعض الأمراء فتكلم وهو قائم فأحسن، قال: فلما جلس تلهيع في كلامه، فقال له: ما أظرفك قائماً وأموقك قاعداً"(81).
أما الظرافة "فهي حال الأديب المتمتع بروح النكتة والدعابة، والظريف صفة يطلقها الجاحظ على هذا النوع من الأدباء، والمستظرف من الكتاب هو الذي يتكلف التملح والدعابة"(82) وفي مثل هذا يقول أبو عثمان واصفاً أحدهم: "وعلى وجهه الاستظراف والتظرف"(83) ويقول أيضاً: "كان ابن صديقة خطيباً ناسباً ويشوبه ببعض الظرف والهزل"(84) ويتضح هذا المعنى أكثر في كتاب الحيوان حيث يقول: "أما عيسى بن مروان فإنه كان شديد التغزل والتصندل حتى شرب لذلك النبيذ وتظرف بتقطيع ثيابه"(85).
6-الملاحة:
وردت قيمة الملاحة في أدب الجاحظ ضمن أكثر من سياق لغوي وحملت أكثر من معنى، فدلَّ بها تارة على الكلام الحسن الذي يلقى تقبلاً من السامع لعظم قدره وجلالته، وفي ذلك يقول: فتأمل هذا الكلام فإنك ستجده مليحاً مقبولاً، وعظيم القدر جليلاً"(86) واستخدمها تارة ثانية لوسم جمال الرجل، وهذا ما كان في قصة خالد بن صفوان السالفة، ويتضح ذلك أيضاً في قوله: "واشتراها في ذلك المحل غلام أملح منها..."(87) ونعت الصوت الجميل بها تارة ثالثة فقال في وصف فضل الشاعرة: "وكانت من أحسن الناس ضرباً بالعود، وأملحهم صوتاً، وأجودهم شعراً"(88).
أما المُلْحة وجمعها مُلَحٌ فهي النادرة الطريفة التي تمتع السامع أو القارئ وتثير- في الأغلب- ضحكه، وكثيراً ما ذكرها أبو عثمان بهذا المعنى ولا سيما في مطلع الأحاديث الطريفة(89) وفي الشاهد التالي يستخدم المُلح والملاحة، الأولى تشير إلى الحادثة برمتها على أنها نادرة طريفة، والثانية لوصف جمال الرجل، يقول: "ورووا في الملح أن فتى قال لجارية له أو لصديقة له: ليس في الأرض أحسن مني ولا أملح مني، فصار عندها كذلك، فبينا هو عندها على هذه الصفة إذ قرع عليها الباب إنسان يريده، فاطلعت عليه من خرق الباب، فرأت أحسن الناس وأملحهم. فلما عاد صاحبها إلى المنزل قالت له: أوأخبرتني أنك أملح الخلق وأحسنهم؟ قال: بلى! وكذلك أنا. فقالت: فقد أرادك اليوم فلان، ورأيته من خرق الباب، فرأيته أحسن منك وأملح! قال: لعمري إنه حسن مليح..."(90).
مفهوم القبح:
صحيح أنه ليس ثمة اتفاق أو إجماع على تصنيف المقولات والقيم الجمالية تصنيفاً محدداً واحداً، إلا أن علماء الجمال لم يختلفوا البتة في أن القبح والجمال قيمتان متناقضتان تدور حول كلٍّ منهما طائفة من المقولات الفرعية المنبثقة منها باعتبارها قيمة أساسية أو محورية، ولم يفترق الجاحظ عن علماء الجمال من هذه الناحية إذ بين أن الحسن (الجمال) والقبح قيمتان تختصان بالموضوعات الجمالية، ولكنهما تقفان على طرفي التناقض، ويبدو ذلك جلياً من سياق الشاهد التالي الذي جاء فيه ببعض النقائض كالغضب والرضا للحالة الانفعالية، والحلال والحرام من الناحية الشرعية، والقبح والحسن للمسائل الجمالية، وفي ذلك يقول: "فليس إلا لا أو نعم، إلا أن قولهم لا موصول منهم بالغضب، قولهم نعم موصول منهم بالرضا، وقد عزلت الحرية جانباً، ومات ذكر الحلال والحرام، ورفض ذكر القبيح والحسن"(91).
ولكن المشكلة التي تعترضنا هنا تتمثل بضبابية حقيقة العلاقة بين القبح والجمال، هذه المشكلة التي لم يبتّها إلى الآن، والتي يمكن إيجازها في السؤال التالي: هل القبح إحدى درجات سلم قيم الجمال؟ وبمعنى آخر نستطيع القول: أيعد القبح جمالاً، ولكنه جمال جد وضيع دنيء لافتقاره إلى كثير من مقومات الجمال كالتناسب والتناسق والتناظر... أم أن للقبح مقوماته الخاصة، كما أن للجمال مقوماته الخاصة، وبالتالي فللقبح سلمه الخاص المستقل عن سلم الجمال؟
يسوق صاحب الحيوان شاهداً نكاد نذهب من خلاله إلى أنه يرى في القبح درجة من درجات الجمال المتدنية جداً. فيقول: "ولما هجا أبو الطروق الضبي امرأته، وكان اسمها شعفر، بالقبح والشناعة فقال:(92)
جاموسةٌ وفيلةٌ وخنزرُ وكلهنَّ في الجمال شعفرُ
ولكنه ذهب في البيان والتبيين إلى ما يخالف ذلك تماماً، فقد بين أن القبح قيمة جمالية محورية مستقلة تقف في الطرف المقابل لقيمة الجمال، وكما أن للجمال مقوماته وخصائصه وشروطه فكذلك شأن القبح، فإن كانت قيمة الجمال وما انفرع عنها من مقولات، تمثل المحبوب والممدوح والمطلوب، فإن القبح هو المكروه والمذموم والمرفوض، ولذلك يقول: "وأعيب عندهم من دقة الصوت، وضيق مخرجه، وضعف قوته، أن يعتري الخطيب البهر والارتعاش والرعدة والعرق"(93).
وكما أن لقيمة الجمال مقولاتها الفرعية الخاصة فكذلك شأن القبح، ولكن مفكرنا وإن استخدم هذه المقولات في أكثر من مكان فإنه لم يتوقف عندها كما توقف عند بعض مقولات الجمال، فقد استخدم الهجنة، والخطل، والابتذال، والسخف، والساقط، والحوشي، والدميم، والشنيع،... دون أية إشارة إلى مراده أو مقصوده منها، لنقل دون أن يبسط معاني هذه المقولات، وسنقف فيما يلي عند مقولتي الخطل والسخف كنموذج للمقولات الفرعية للقبح.
1-الخطل:
إذا ما تذكرنا اعتبار الجاحظ حقيقة الجمال متمثلة في الاعتدال استطعنا القول أن الخطل عند الجاحظ يعادل القبح تماماً، كما أن الحسن يعادل الجمال، والذي يقودنا إلى هذا الفهم هو تحديد أبي عثمان للخطل بأنه انحراف عن الاعتدال أو تجاوزه ماله من مقدار فيقول: "وإنما وقع النهي عن كل شيء جاوز المقدار، ووقع اسم العي على كل شيء قصَّر عن المقدار، فالعي مذموم، والخطل مذموم"(94) ويشرح هذا الكلام قاصراً الخطل فيه على الكلام، فيقول: للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه"(95).
وبهذا المعنى الأخير نجد أن الخطل هو ما زاد عن الكلام من غير ما فائدة، هذراً وإسهاباً، يقول بالمعنى ذاته أيضاً: فأما ما ذكرتم من الإسهاب والتكلف، والخطل والتزيد، فإنما يخرج إلى الإسهاب المتكلف، وإلى الخطل المتزيد، فأما أرباب الكلام، ورؤساء أهل البيان، والمطبوعون المعاودون، وأصحاب التحصيل والمحاسبة، والتوقي والشفقة، والذين يتكلمون في صلاح ذات البين، وفي إطفاء فائرة أو حمالة، أو على منبر جماعة، فكيف يكون كلام هؤلاء، يدعون إلى السلاطة والمراء، وإلى الهذر والبذاء، وإلى النفج والرياء"(96).
2-السخف:
يبدو من السياقات الكثيرة التي أورد الجاحظ فيها مقولة السخف أنه يخصها لوصف ضرب من الكلام، له مجموعة من الخصائص البنيوية أو المعنوية، تتناقض على عمومها مع الفخامة والجزالة والفرادة والأصالة، ولعلنا، من بعض ما أورده الجاحظ، كما يرى الدكتور ميشال عاصي "نستطيع الاستنتاج بأن مدلول السخف يتحدد من حيث المعنى بالموضوع الذي يجانب الأفكار السامية والأغراض الجليلة، بحيث يعلق بالتوافه، ويغوص في الابتذال، أما من حيث المبنى فإن السخف يقع على حوشي اللفظ والساقط منه، الذي فقد حصانته الأدبية، لينتشر على ألسنة الرعاع، وفي مجالس عامة الناس وسوقتهم"(97). وهذا ما يتضح لنا من قوله: "ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء؛ فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال"(98).
وربما كان السخف مطلوباً لتأدية وظيفة جمالية محددة، ولذلك يقول أبو عثمان: "إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يُحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ الشريفة الكريمة المعاني"(99) بل إنه في موضعه لائق مناسب ولا يليق غيره إن حل مكانه وإن كان جزلاً فخماً، ومن ثم لا يجوز استبداله بغرض الإمتاع أو الفائدة لأن الجديد سيغدو نشازاً يكرب ولا يمتع، يقول: "وإذا كان موضع الحديث على أنه مضحك وملهٍ، وداخل في باب المزاح والطيب، فاستعملت فيه الإعراب، انقلب عن وجهته، وإن كان في لفظه سخف وأبدلت السخافة بالجزالة، صار الحديث الذي وضع على أن يسر النفوس يكربها، ويأخذ بأكظامها"(100).